خيار دبلوماسي غير معهود إفريقيا وعربيا.. المغرب لم يعد يخشى "الصدام" في التعامل مع الدول الكبرى
لم يعد أمرا سريا أن ملامح الدبلوماسية المغربية تغيرت بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، وهو الأمر الذي انتقل تدريجيا من الندية في التعامل مع القوى الكبرى دوليا وإقليميا إلى "الهجوم" الدبلوماسي العلني على بعض تلك الدول، خاصة عندما يتعلق الأمر بملف الصحراء أو بقضايا أمنية واستخباراتية حساسة، وهو الشيء الذي يحدث حاليا مع ألمانيا.
وتخوض الرباط منذ أشهر معركة مزدوجة، صامتة أحيانا وعلنية أحيانا أخرى، مع دولتين لهما ثقلهما الكبير في القارة الأوروبية، ويتعلق الأمر بكل من إسبانيا وألمانيا، فالأولى قرر تأجيل الاجتماع رفيع المستوى المقرر بين حكومته وحكومتها منذ أواخر العام الماضي، أما الثانية فاستدعى سفيرته لديها احتجاجا على تراكمات تهم وحدته الترابية ودوره الإقليمي والاستخباراتي، وهو أمر غير معهود لدى دولة عربية أو إفريقية.
الصحراء.. خط أحمر
ويبدو جليا أن المغرب، خاصة بُعيد المرسوم الرئاسي الذي وقعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في دجنبر من سنة 2020، الذي يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، والذي عززه الإعلان الرسمي الفرنسي المساند لمبادرة الحكم الذاتي كحل نهائي للملف، أصبح لا يرضى بالخطاب التقليدي المكرر الداعي لحل "سياسي متفاوض عليه ومقبول لدى الطرفين تحت مظلة الأمم المتحدة"، وهو الأمر الذي سبق أن شدد عليه بصيغ مختلف وزير الخارجية ناصر بوريطة.
لكن في حالة إسبانيا وألمانيا كان الأمر مختلفا، فمدريد عبر وزيرة خارجيتها أرانتشا غونزاليس لايا، لم تكتف بترديد الخطاب السابق عقب إعلان ترامب، بل أعلنت أن حكومة بلادها ترفض الخطوة الأمريكية باعتبار ملف الصحراء لا يقبل الحلول الأحادية، الأمر الذي دفع الرباط لإعادة فتح كلف سبتة ومليلية من خلال تصريحات لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني أكدت على مغربيتها، ثم بغض الطرف عن محاولات الهجرة السرية من سواحل الصحراء إلى جزر الكناري في إشارة رمزية للدور الذي تلعبه سيادة المغرب على الصحراء في حماية جزء من الأراضي الإسبانية.
وكانت قضية الصحراء مرة أخرى سببا في ممارسة المغرب لضغط دبلوماسي على مدريد تمثل في وقف الاجتماعات التمهيدية بين وزراء الحكومتين تحضيرا للاجتماع رفيع المستوى الثاني عشر المؤجل منذ دجنبر 2020، وذلك بعد دخول زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، للعلاج بإحدى المستشفيات الإسبانية بواسطة هوية جزائرية مزورة لتفادي المتابعة القضائية، والذي تلاه بلغ شديد اللهجة من طرف الخارجية المغربية ثم خروج إعلامي لبوريطة عبر وكالة الأنباء الإسبانية "إيفي" والذي اتهم فيه بشكل مباشر إسبانيا بـ"اللعب على الحبلين".
لغة صدامية.. دون مواربة
وكانت قضية الصحراء حاضرة أيضا في الخصومة الدبلوماسية مع ألمانيا، وإن كان الأمر مُتكهَّنا به في مارس الماضي حين قررت الحكومة المغربية قطع كل أشكال التعاون والاتصال مع السفارة الألمانية في الرباط، فإنه برز بشكل واضح في بلاغ وزارة الخارجية الصادر أمس الخميس والمُعلن عن استدعاء السفيرة زهور العلوي للتشاور، فالأمر يتعلق بـ"تسجيل ألمانيا لموقف سلبي بشأن قضية الصحراء المغربية، إذ جاء هذا الموقف العدائي في أعقاب الإعلان الرئاسي الأميركي، الذي اعترف بسيادة المغرب على صحرائه، وهو ما يعتبر موقفا خطيراً لم يتم تفسيره لحد الآن".
ولم تغفر الرباط لبرلين طلبها عقد اجتماع لمجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء مباشرة بعد إعلان ترامب، لكن الحدة التي جرى بها التعامل مع ألمانيا فرضتها تراكمات أخرى تتعلق أساسا بملف المدان السابق في قضايا الإرهاب، محمد حاجب، وتسريب معلومات استخباراتية وأمنية منحتها الأجهزة المغربية لنظيرتها الألمانية، ثم عدم استدعاء المغرب لمؤتمر برلين حول الملف الليبي في يناير من العام الماضي، على الرغم من الدور الإقليمي المغربي في هذه القضية.
واختار المغرب لهجة شديدة وصدامية في خطابه لبرلين، فبخصوص ملف الصحراء وصف الموقف الألماني بـ"العدائي" و"الخطير"، كما اعتبر أن ألمانيا "تحارب بشكل مستمر وبلا هوادة الدور الإقليمي الذي يلعبه المغرب، وتحديدا في الملف الليبي، وذلك بمحاولة استبعاد المملكة من دون مبرر من المشاركة في بعض الاجتماعات الإقليمية المخصصة لهذا الملف"، في حين لم يخف غضبه من الحماية الألمانية لحاجب، وهو البلاغ الذي اتضح من خلال تصريحات خارجية برلين اليوم أنه كان "مفاجئا" لهذه الأخيرة.
الحلفاء ليسوا استثناءً
لكن النفس الصدامي الجديد الملاحظ لدى الدبلوماسية المغربية لم يقتصر على إسبانيا وألمانيا فقط، فقد برز أيضا خلال السنوات الماضية حتى مع حلفاء تقليديين عادة ما كانت تجمعهم علاقة قوية بالمغرب، ويتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ففي 2013 وجدت الرباط نفسها مدفوعة لمواجهة واشنطن في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، إذ بعد المرحلة الجيدة التي طبعت العلاقات الثنائية بين العاصمتين في فترة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، التي تتمتع بعلاقات شخصية متينة مع العائلة الملكية في المغرب، خلفها جون كيري الذي كان يعول على دفع ملف الصحراء نحو مسار جديد من خلال مقترحه المقدم لمجلس الأمن بتوسيع صلاحيات بعثة "المينورسو" لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء.
وكانت هذه الخطوة إيذانا بدخول المغرب في صدام مع الولايات المتحدة، والذي تطور إلى إلغاء مناورات "الأسد الإفريقي" العسكرية الضخمة، تزامنا مع إعلان الحكومة "رفضها القاطع هذا النوع من المبادرات الجزئية والأحادية الجانب"، الأمر الذي دفع واشنطن لمراجعة قرارها ومن ثم سحب مقترحها من مجلس الأمن نهائيا.
أما مع فرنسا، فدخل المغرب في صدام دبلوماسي غير مسبوق في 2014، خلال فترة رئاسة فرانسوا هولاند، وذلك بعد إرسال القضاء الفرنسي مذكرة استدعاء ضد المدير العام للأمن الوطني عبد اللطيف الحموشي لسفارة المغرب بباريس خلال زيارة هذا الأخير للعاصمة الفرنسية، بعد اتهامه من طرف شخصين مغربيين بـ"التعذيب"، وهي الخطوة التي دفعت الرباط لاستدعاء السفير الفرنسي للاحتجاج ثم قطع جميع أشكال التعاون القضائي مع السلطات الفرنسية، وبعد قطيعة امتدت لسنة ستقدم فرنسا "اعتذارا ضمنيا" للمغرب باستدعاء الحموشي، ولكن هذه المرة من أجل توشيحه بوسام.
وعلى المستوى العربي أيضا، فاجأ المغرب السعودية والإمارات، الحليفان التقليديان والتاريخيان للرباط بمنطقة الخليج، برفضه مشاركتهما الدخول في "مقاطعة" قطر سنة 2017 كما أطلقت عليها الرياض وأبو ظبي، أو "حصارها" كما تنعت الدوحة الأمر، بل إن رفض البلدين الخليجيين للوساطة المغربية لحل الأزمة كان دافعا كافيا للملك محمد السادس ليكون أول رئيس دولة يزور الأراضي القطرية بعد قطيعة الجيران، مع إصرار الرباط على "عدم الانحياز" في هذا الملف رغم عدم الرضا السعودي والإماراتي عن ذلك، غير أن الخيار المغربي أثبت نجاعته بعد عودة المياه لمجاريها في بداية 2021.